الزعل اللي صاحبه يبقي ساكت
الزَّعَلُ الَّذي يُرافِقُهُ الصَّمْتُ أَشَدُّ وَقْعًا مِنَ الكَلِماتِ، فَهُوَ زَعَلٌ يَسْكُنُ القَلْبَ وَلا يَجِدُ طَريقَهُ
إِلَى اللِّسانِ. يَكْتَفي صاحِبُهُ بالسُّكوتِ؛ لأَنَّ ما في داخِلِهِ أَكْبَرُ مِن أَنْ يُقالَ
، وَأَعْمَقُ مِن أَنْ تُحْتَوَى حُروفُهُ. في ذلِكَ الصَّمْتِ حُزْنٌ مُتَراكِمٌ، وَخَيْبَةُ أَمَلٍ لَمْ تَجِدْ مَنْ
يُصْغِي إِلَيْها، وَأَلَمٌ يَتَكَلَّمُ بِالعُيُونِ بَدَلَ الكَلامِ.
هُوَ زَعَلٌ هادِئٌ في ظاهِرِهِ، عاصِفٌ في باطِنِهِ، يَنْتَظِرُ لَفْتَةَ فَهْمٍ أَوْ كَلِمَةَ احْتِواءٍ تُعيدُ لِلنَّفْسِ
سَكينَتَها.
وَيَسْتَمِرُّ هٰذَا الزَّعَلُ الصّامِتُ في النُّموِّ كَالنَّبْتِ الخَفِيِّ، لا يُرى وَلٰكِنَّهُ يُثْقِلُ الرُّوحَ يَوْمًا بَعْدَ
يَوْمٍ. يَخْتارُ صاحِبُهُ السُّكوتَ لَيْسَ عَجْزًا عَنِ التَّعْبِيرِ، بَلْ تَرَفُّعًا عَنِ الجِدالِ،
أَوْ خَوْفًا مِنْ أَنْ تُساءَ فَهْمُ مَشاعِرِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَنَّ بَعْضَ الحُرُوفِ إِذا قيلَتْ فَقَدَتْ قِيمَتَها.
فَيَصيرُ الصَّمْتُ لُغَتَهُ الوَحيدَةَ، وَتَغْدو المَسافَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ زَعَلَ مِنْهُ أَكْثَرَ اتِّساعًا مَعَ كُلِّ
لَحْظَةٍ صَمْتٍ.
وَفي أَعْماقِهِ يَدورُ حِوارٌ طَويلٌ لا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ، أَسْئِلَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ عَنِ القِيمَةِ وَالمَكانَةِ وَالصِّدْقِ،
وَعِتابٌ مُؤَجَّلٌ يَتَراكَمُ حَتّى يُثْقِلَ القَلْبَ. يَبْدو صاحِبُ الزَّعَلِ الصّامِتِ هادِئًا أَمامَ الآخَرينَ،
وَلٰكِنَّ نَبْضَ قَلْبِهِ يَحْمِلُ قِصَّةً طَويلَةً مِنَ الخَيْبَةِ وَالانْتِظارِ. فَهُوَ لا يَطْلُبُ كَثيرًا؛ كَلِمَةَ صِدْقٍ،
أَوِ اعْتِرافًا بِالتَّقْصيرِ، أَوْ مُحاوَلَةً جادَّةً لِلفَهْمِ.
وَعِنْدَما يَطُولُ الصَّمْتُ، يَتَحَوَّلُ الزَّعَلُ إِلى بُعْدٍ داخِلِيٍّ، فَيَتَعَلَّمُ صاحِبُهُ أَنْ يَكْتَفي بِنَفْسِهِ، وَأَنْ
يُخَفِّفَ تَوَقُّعاتِهِ، وَأَنْ يَحْفَظَ مَشاعِرَهُ بَعِيدًا عَمَّنْ لا يُقَدِّرُها.
عِنْدَها لا يَكونُ الصَّمْتُ عِقابًا لِلآخَرينَ، بَلْ حِمايَةً لِلقَلْبِ مِنْ مَزيدٍ مِنَ الأَلَمِ. وَمَعَ ذٰلِكَ يَبْقى
الأَمَلُ قائِمًا فِي أَعْماقِهِ، أَمَلٌ خَجُولٌ بِأَنْ يَأْتي يَوْمٌ يُكْسَرُ فيهِ هٰذَا الصَّمْتُ بِفَهْمٍ صادِقٍ،
وَيُداوَى الزَّعَلُ بِحُضورٍ صادِقٍ لا يَحْتاجُ إِلى كَثيرِ كَلامٍ.
وَيَسْتَمِرُّ هٰذَا الزَّعَلُ الصّامِتُ في النُّموِّ كَالنَّبْتِ الخَفِيِّ، لا يُرى وَلٰكِنَّهُ يُثْقِلُ الرُّوحَ يَوْمًا بَعْدَ
يَوْمٍ. يَخْتارُ صاحِبُهُ السُّكوتَ لَيْسَ عَجْزًا عَنِ التَّعْبِيرِ، بَلْ تَرَفُّعًا عَنِ الجِدالِ،
أَوْ خَوْفًا مِنْ أَنْ تُساءَ فَهْمُ مَشاعِرِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَنَّ بَعْضَ الحُرُوفِ إِذا قيلَتْ فَقَدَتْ قِيمَتَها.
فَيَصيرُ الصَّمْتُ لُغَتَهُ الوَحيدَةَ، وَتَغْدو المَسافَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ زَعَلَ مِنْهُ أَكْثَرَ اتِّساعًا مَعَ كُلِّ
لَحْظَةٍ صَمْتٍ.وَمَعَ مَرورِ الوَقْتِ يَصيرُ الزَّعَلُ الصّامِتُ دَرْسًا قاسِيًا، يَتَعَلَّمُ فيهِ الإِنْسانُ أَنَّ
بَعْضَ القُرْبِ يُؤْلِمُ، وَأَنَّ بَعْضَ الصَّمْتِ أَبْلَغُ مِن أَلْفِ شَكْوَى. فَصاحِبُ هٰذَا الزَّعَلِ لا يُجيدُ
التَّجاهُلَ، وَلٰكِنَّهُ يُجيدُ الاحْتِمالَ، وَيَعْرِفُ كَيْفَ يُخْفِي وَجَعَهُ خَلْفَ هُدوءِ المَلامِحِ وَبَساطَةِ
التَّعامُلِ. يَبْتَسِمُ أَحْيانًا لِئَلّا يُثْقِلَ غَيْرَهُ بِحُزْنِهِ، وَيَصْمُتُ كَيْ لا يَخْسَرَ ما تَبَقّى مِن وِدادٍ.
وَفي داخِلِهِ حَنينٌ إِلى كَلامٍ لَمْ يُقَلْ، وَإِلى عِتابٍ لَوْ قِيلَ لَرُبَّما أَصْلَحَ ما تَصَدَّعَ، وَلٰكِنَّهُ يُؤْجِلُهُ؛
لأَنَّهُ لا يُريدُ أَنْ يَفْرِضَ مَشاعِرَهُ عَلى مَنْ لا يَشْعُرُ بِها. فَيَكْتَفي بِالمُراقَبَةِ مِن بَعيدٍ، وَيَتَرْكُ
لِلأَيّامِ مَهمَّةَ الكَشْفِ: إِمّا فَهْمٌ يُعيدُ القُرْبَ، وَإِمّا بُعْدٌ يُنْهِكُ الذِّكْرَى حَتّى تَخْفُتَ.
وَعِنْدَما يَقْتَنِعُ صاحِبُ الزَّعَلِ الصّامِتِ أَنَّ الصَّمْتَ طالَ أَكْثَرَ مِمّا يَجِبُ، يَتَغَيَّرُ شَيْئًا فَشَيْئًا، لا
قَسْوَةً وَلَا جُفُوًّا، بَلْ نُضْجًا وَفَهْمًا. يَتَعَلَّمُ أَنْ يُقَدِّمَ نَفْسَهُ أَوَّلًا، وَأَنْ يَضَعَ حُدودًا تُحافِظُ عَلى
كَرامَتِهِ، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ أَنَّ بَعْضَ العَلاقَاتِ لا تَسْتَحِقُّ كُلَّ هٰذَا الصَّمْتِ وَكُلَّ هٰذَا الأَلَمِ.
وَهٰكَذا يَبْقى الزَّعَلُ الصّامِتُ حِكايةً لا يَفْهَمُها إِلّا مَنْ عايَشَها، حِكايةَ قَلْبٍ آثَرَ الهُدوءَ عَلى
الصِّدامِ، وَالصَّمْتَ عَلى الجَرحِ، وَالانْسِحابَ الهٰادِئَ عَلى كَسْرِ الخَواطِرِ. هُوَ زَعَلٌ لا
يَصْرُخُ، وَلٰكِنَّهُ يَتْرُكُ أَثَرًا عَميقًا، وَيُعَلِّمُ الإِنْسانَ أَنَّ أَصْعَبَ الأَوْجاعِ هِيَ تِلْكَ الَّتي نَحْمِلُها
فِي صَمْتٍ.
بقلم /الكاتبة سيدة حسن

إرسال تعليق